سلك قطار الـ “يورو ستار” Eurostar طريقه من جديد بين لندن وبروكسل في صباح ذلك اليوم الربيعي، وبدأ يشق طريقه مسرعاً عبر السهول الخضراء الممتدة إلى ما لا نهاية. وعند وصولنا إلى مدينة دوفر البريطانية، اختفى شعاع الشمس الخجول. وكان ذلك إشارة إلى بدء الرحلة تحت مياه بحر المانش، من خلال النفق الذي يربط بريطانيا بجارتها فرنسا.
استمرت الرحلة داخل النفق حوالى 25 دقيقة، اجتزنا خلالها أكثر من 50 كيلومتراً. ولو لم يخبرنا سائق القطار بتواجدنا في ذلك النفق الذي هو ثاني أطول نفق تحت البحر في العالم، بعد نفق «سيكان» في اليابان، لما علمنا بذلك. فعلى جانبي النفق تزدان المصابيح الكهربائية وتتلألأ لتشعر المسافر بسلاسة الرحلة منذ لحظة دخوله النفق ولغاية وصوله إلى مدينة “كاليه” الفرنسية، التي منها يأخذ القطار مسلكه باتجاه باريس أو نحو العاصمة البلجيكية بروكسل. الوجهة الأخيرة كانت مقصد القطار، وفور توقفه في محطة «ميدي» البلجيكية بدت وكأنها خلية نحل ناشطة. فعلى إيقاع حفيف دواليب حقائب السفر، ووقع أقدام المسافرين المتسارعة باتجاهات مختلفة، تركت المحطة متوجهاً إلى فندق «لي ميريديان» Le Méridien الذي يرخي بظلاله على الحي القديم وسط بروكسل، ويقف شامخاً فوق مبانيها القديمة وأحيائها المتواضعة.
اليوم الأول
ولأن طريق الفخامة تبدأ من المدخل الخارجي، كان مدخل «لي ميريديان» خير دليل عن الهندسة الراقية التي تمتد على كل زاوية فيه. وجولة في أروقة الفندق تشعر الزائر وكأنه يتنقل في أحد القصور الفرنسية. ولا عجب في ذلك، فمعظم فنادق «لي ميريديان» لا تزال وفية لجذورها الفرنسية التي ترجع إلى تاريخ تأسيسها عام 1972.
الرفاهية والأناقة وجدتا مكاناً لهما في جميع أجنحة الفندق وغرفه الفسيحة حيث كان استقراري في واحدة منها.و ما أن دخلت الغرفة حتى سارعت إلى النافذة لبرهة من الوقت، ورحت أتأمل بروكسل الصغيرة ومبانيها التي ترقى بمعظمها إلى العصور الوسطى. ثم بانت الأبراج والقبب المتعالية من الساحة الكبيرة أو Grand Place فأحسست وكأنها تناديني لأعود وألتقي بها. فكم من مرة زرت بروكسل، وقضيت متسعاً من الوقت في هذه الساحة التي كل مديح فيها لا يفيها حقها.
على أرصفة بروكسل المرصوفة بالحصى سرت باتجاه الساحة، وكانت تعطر الأجواء رائحة الحلويات والشوكولا التي تشتهر المدينة بصناعتها. ها أنا في الساحة الكبيرة التي سلبت عقول الشعراء فتنافسوا في وصفهم لها، وفتنت الأدباء فتباروا في الكتابة عنها، وبهرت الرسامين فأبدعت ريشتهم في تخليدها. هي بالفعل مكان يضج بالمآثر التاريخية والهندسة القوطية التي تنجلي بأبهى صورها، ولذلك أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1998 على لائحة التراث العالمي.
ستبهركم الساحة حتماً بجمال مبانيها التي يستحق كل منها جائزة في الإبداع الهندسي، نوافذ مزدانة بالنقوش المطلي بعضها بالألوان الذهبية، منحوتات لشخصيات تاريخية، مجسمات لحيوان الغرغول الأسطوري الذي يعتقد بأنه يساعد في طرد الشر، قبب بهندسة مميزة… كل ذلك يجتمع في هذه الساحة التي تختزن صفحات مهمة من التاريخ البلجيكي؛ ففي مبنى دار البلديةHôtel de Ville الذي لا يزال المقر الرسمي لحكومة المدينة، عقد ولي العهد البلجيكي الأمير فيليب والأميرة ماتيلد زواجهما المدني الذي يسبق الزواج الكنسي عندهم عام 1999. وتقول إحدى الأساطير إن مصمم برج دار البلدية المهندس المعماري الفلامنكي يان فان رايزبروك لم يقتنع بشكل البرج الذي يصل إرتفاعه إلى 96 متراً، لذلك تسلق أعلاه ورمى بنفسه إلى الأسفل.
لكل مبنى هنا قصة وحكاية لم تنجح السنوات الطويلة في محوها. ففي المبنى المعروف بمنزل الملك أو Maison du Roi كان يجتمع الخبازون البلجيكيون خلال القرن الثالث عشر لمناقشة أوضاعهم الإقتصادية. ومن المعروف أن هذا المنزل لم يسكنه أي ملك بلجيكي، ولكن بلدية بروكسل أعطته هذا الإسم بعد امتلاكه. أما المبنى الذي يحمل إسم «الأوزة» Le Cygne فهو الشاهد على سلسلة من اللقاءات التي جرت منذ أكثر من 100 عام بين الفيلسوف والإجتماعي الألماني كارل ماركس والفيلسوف الإشتراكي الألماني فريدريك أنجلز عندما كانا في صدد كتابة «البيان الشيوعي» عام 1847. كما أن حزب العمال البلجيكي تأسس هنا عام 1885.
لا أعلم لماذا أحن دائماً إلى الوقوف في «الساحة الكبيرة» أمام المبنى الذي يحمل إسم «الحمامة» Le Pigeon ؟ ربما لأن الروائي والكاتب المسرحي والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو عاش فيه عندما نفي من فرنسا عام 1851 في أعقاب الإنقلاب العسكري الذي وضع حداً للجمهورية الثانية. أحب هوجو هذه الساحة كثيراً، ووصفها بأجمل ساحات العالم. وأنا بالفعل أشاطره الرأي. فعلى رغم زياراتي للعديد من ساحات العالم، فإن هذه الساحة تقدم نفسها لزوارها كتحفة فنية تعبق بالكنوز التاريخية والمآثر العمرانية، وتعيش ماضيها بكل فخر واعتزاز.
غالباً ما أنهي زيارتي للساحة بالإستراحة وتناول الطعام في مطعم «السفينة الشراعية الذهبية» La Chaloup d’Or. ولهذا المطعم تاريخ طويل يمتد إلى مئات السنين. فحتى القرن الرابع عشر كان المقر الرسمي لجمعية الخياطين البلجيكيين. وستلاحظون في الطابق العلوي تمثال القديس بونيفاس شفيع الخياطين، وبالقرب منه لوحات ومجسمات خشبية وأوانٍ قديمة ستنقلكم إلى الماضي في لحظات.
اليوم الثاني
أمّر من جديد في «الساحة الكبيرة» قاصداً أحد أهم معالم بروكسل السياحية، تمثال الـ «مانيكان بيس» Mannequin Pis البرونزي الذي يصور ولداً عارياً بطول 61 سنتمتراً وهو يبول! وتدور حول هذا المجسم الصغير الذي يستقطب مئات السياح يومياً مجموعة من الأساطير، أكثرها شهرة تلك التي تقول إن بروكسل كانت في القرن الرابع عشر تحت الحصار من قبل قوات أجنبية. وكانت لدى المهاجمين خطة تقضي بوضع عبوات ناسفة على جدران المدينة لتهديمها. وشاءت الصدف أن يقوم ولد صغير يدعى «جولينانسكي» بمهمة التجسس على الأعداء. وبينما كانوا يستعدون لتفجير المدينة، تبول على الفتيل المشتعل، وبالتالي أنقذ المدينة. على إيقاع الموسيقى التي كانت تعزفها فرقة موسيقية تحظى برعاية الجمعية الخيرية التي تهتم بالتمثال.
تركت المكان قاصداً «المركز البلجيكي للرسوم المتحركة» The Belgian Comic Strip Center الذي افتتحه الملك البلجيكي ألبير الثاني وزوجته الملكة باولا الإيطالية الأصل عام 1989. يمتد المركز على مساحة 4 آلاف متر مربع ليقدم لزواره الذين يفوق عددهم 200 ألف زائر سنوياً صورة واضحة عن عالم الرسوم المتحركة، من بداياته المرموقة إلى التطورات الأخيرة. وأكثر ما أثار اهتمامي هنا القسم الذي يلقي الضوء على «تان تان» Tintin، تلك الشخصية الكرتونية التي اضحكتنا كثيراً في صغرنا، ولا تزال حتى يومنا هذا مصدر فرح للكثيرين.
اقتربت من قصص «تان تان» وكلبه الوفي «ميلو» التي ترجمت إلى أكثر من 55 لغة حول العالم. عند تلك الحقيقة زاد إعجابي بمخترع تلك الشخصية الفنان ورسام الكاريكاتور البلجيكي جورج ريمي الذي بدأ بكتابة سلسلة مغامرات «تان تان» عام 1929 واستمر حتى وفاته العام 1938.
و الجميل في مغامرات «تان تان» انها تحكي عن قصة مواطن دولي يتنقل من بلجيكا إلى فرنسا ثم إلى الصين والشرق الأوسط وأميركا بجميع أقسامها، ليشارك بقضايا تلك المناطق، ما جعل من «تان تان» شخصية المواطن الدولي بامتياز. وكم شبهت هذه الشخصية بالدور الذي تلعبه مؤسسات الإتحاد الأوروبي على أرض بلجيكا.
اليوم الثالث
اسأل أي مواطن بلجيكي عن أرقى وأهم الأحياء التي تقطنها الطبقة المخملية عندهم، فسيكون الجواب إنه حي الـ «سابلون» Le Sablon الذي بدأ يستقطب في السنوات الأخيرة محلات التحف والمعارض الفنية. دخلت في صبيحة يومي الثالث في بروكسل متجراً للتحف تديره امرأة بلجيكية في العقد الخامس من العمر، فأخبرتني أن إسم الحي يشير إلى وقت كان يقع فيه خارج أسوار المدينة في القرن الثاني عشر. وكان الموقع آنذاك عبارة عن طريق رملية يسلكها الناس للوصول إلى أبواب المدينة. ومن كثرة استخدام الطريق، أصبحت جوفاء وتكونت على جانبيها طبقة من الصلصل الرملي تعرف بالفرنسية باسم «سابلون». وفي القرن الرابع عشر شيدت في ذلك الحي كنيسة صغيرة للسيدة العذراء، ثم تم توسيعها لتتحول إلى كنيسة قوطية الطراز جميلة الشكل. ومنذ ذلك التاريخ بدأت طبقة النبلاء في بلجيكا بناء منازلها الفخمة في الحي الذي تحول مع مرور الزمن إلى مكان تتنافس الطبقة الثرية على السكن فيه.
شكرت السيدة البلجيكية على معلوماتها الدقيقة، وقصدت وفقاً لنصيحتها مقهى وباتيسري «ويتامر» Wittamer الشهير بصناعة الحلويات والشوكولا. وقد علمت أن قالب الحلوى الذي قطعه ولي العهد البلجيكي وزوجته خلال حفل زفافهما عام 1999 تم تحضيره في باتيسري «ويتامر».
وأنهي رحلتي في بروكسل بزيارة «الآتوميوم» Atomium، ذلك النصب التذكاري المشيد من الإسمنت والفولاذ عام 1958 للإحتفال بمعرض بروكسل 58. سيدهشكم حتماً شكله الهندسي المميز حيث تبرز 9 طابات من كريستال الحديد، مرتبطة ببعضها عبر أنابيب ضخمة، وهي التمثيل البصري لمفهوم جزيئات كريستال الحديد، بعد تضخيمها 150 بليون مرة. بعد وصولي إلى الطابة العلوية عبر السلالم الكهربائية، كنت مع غيري من السياح نستمتع بالمناظر البانورامية التي تلف ذلك المكان، والتي تجعل من الرحلة إليه متعة في حد ذاتها.
** للسفر:
* تستغرق الرحلة من لندن إلى بروكسل عبر قطار اليورو ستار حوالى الساعتين. وللمزيد من المعلومات يمكنكم زيارة موقع قطار اليورو ستار .
* للمزيد من المعلومات عن بروكسل يمكنكم زيارة الموقع التالي .
سلك قطار الـ “يورو ستار” Eurostar طريقه من جديد بين لندن وبروكسل في صباح ذلك اليوم الربيعي، وبدأ يشق طريقه مسرعاً عبر السهول الخضراء الممتدة إلى ما لا نهاية. وعند وصولنا إلى مدينة دوفر البريطانية، اختفى شعاع الشمس الخجول. وكان ذلك إشارة إلى بدء الرحلة تحت مياه بحر المانش، من خلال النفق الذي يربط بريطانيا بجارتها فرنسا.
استمرت الرحلة داخل النفق حوالى 25 دقيقة، اجتزنا خلالها أكثر من 50 كيلومتراً. ولو لم يخبرنا سائق القطار بتواجدنا في ذلك النفق الذي هو ثاني أطول نفق تحت البحر في العالم، بعد نفق «سيكان» في اليابان، لما علمنا بذلك. فعلى جانبي النفق تزدان المصابيح الكهربائية وتتلألأ لتشعر المسافر بسلاسة الرحلة منذ لحظة دخوله النفق ولغاية وصوله إلى مدينة “كاليه” الفرنسية، التي منها يأخذ القطار مسلكه باتجاه باريس أو نحو العاصمة البلجيكية بروكسل. الوجهة الأخيرة كانت مقصد القطار، وفور توقفه في محطة «ميدي» البلجيكية بدت وكأنها خلية نحل ناشطة. فعلى إيقاع حفيف دواليب حقائب السفر، ووقع أقدام المسافرين المتسارعة باتجاهات مختلفة، تركت المحطة متوجهاً إلى فندق «لي ميريديان» Le Méridien الذي يرخي بظلاله على الحي القديم وسط بروكسل، ويقف شامخاً فوق مبانيها القديمة وأحيائها المتواضعة.
اليوم الأول
ولأن طريق الفخامة تبدأ من المدخل الخارجي، كان مدخل «لي ميريديان» خير دليل عن الهندسة الراقية التي تمتد على كل زاوية فيه. وجولة في أروقة الفندق تشعر الزائر وكأنه يتنقل في أحد القصور الفرنسية. ولا عجب في ذلك، فمعظم فنادق «لي ميريديان» لا تزال وفية لجذورها الفرنسية التي ترجع إلى تاريخ تأسيسها عام 1972.
الرفاهية والأناقة وجدتا مكاناً لهما في جميع أجنحة الفندق وغرفه الفسيحة حيث كان استقراري في واحدة منها.و ما أن دخلت الغرفة حتى سارعت إلى النافذة لبرهة من الوقت، ورحت أتأمل بروكسل الصغيرة ومبانيها التي ترقى بمعظمها إلى العصور الوسطى. ثم بانت الأبراج والقبب المتعالية من الساحة الكبيرة أو Grand Place فأحسست وكأنها تناديني لأعود وألتقي بها. فكم من مرة زرت بروكسل، وقضيت متسعاً من الوقت في هذه الساحة التي كل مديح فيها لا يفيها حقها.
على أرصفة بروكسل المرصوفة بالحصى سرت باتجاه الساحة، وكانت تعطر الأجواء رائحة الحلويات والشوكولا التي تشتهر المدينة بصناعتها. ها أنا في الساحة الكبيرة التي سلبت عقول الشعراء فتنافسوا في وصفهم لها، وفتنت الأدباء فتباروا في الكتابة عنها، وبهرت الرسامين فأبدعت ريشتهم في تخليدها. هي بالفعل مكان يضج بالمآثر التاريخية والهندسة القوطية التي تنجلي بأبهى صورها، ولذلك أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1998 على لائحة التراث العالمي.
ستبهركم الساحة حتماً بجمال مبانيها التي يستحق كل منها جائزة في الإبداع الهندسي، نوافذ مزدانة بالنقوش المطلي بعضها بالألوان الذهبية، منحوتات لشخصيات تاريخية، مجسمات لحيوان الغرغول الأسطوري الذي يعتقد بأنه يساعد في طرد الشر، قبب بهندسة مميزة… كل ذلك يجتمع في هذه الساحة التي تختزن صفحات مهمة من التاريخ البلجيكي؛ ففي مبنى دار البلديةHôtel de Ville الذي لا يزال المقر الرسمي لحكومة المدينة، عقد ولي العهد البلجيكي الأمير فيليب والأميرة ماتيلد زواجهما المدني الذي يسبق الزواج الكنسي عندهم عام 1999. وتقول إحدى الأساطير إن مصمم برج دار البلدية المهندس المعماري الفلامنكي يان فان رايزبروك لم يقتنع بشكل البرج الذي يصل إرتفاعه إلى 96 متراً، لذلك تسلق أعلاه ورمى بنفسه إلى الأسفل.
لكل مبنى هنا قصة وحكاية لم تنجح السنوات الطويلة في محوها. ففي المبنى المعروف بمنزل الملك أو Maison du Roi كان يجتمع الخبازون البلجيكيون خلال القرن الثالث عشر لمناقشة أوضاعهم الإقتصادية. ومن المعروف أن هذا المنزل لم يسكنه أي ملك بلجيكي، ولكن بلدية بروكسل أعطته هذا الإسم بعد امتلاكه. أما المبنى الذي يحمل إسم «الأوزة» Le Cygne فهو الشاهد على سلسلة من اللقاءات التي جرت منذ أكثر من 100 عام بين الفيلسوف والإجتماعي الألماني كارل ماركس والفيلسوف الإشتراكي الألماني فريدريك أنجلز عندما كانا في صدد كتابة «البيان الشيوعي» عام 1847. كما أن حزب العمال البلجيكي تأسس هنا عام 1885.
لا أعلم لماذا أحن دائماً إلى الوقوف في «الساحة الكبيرة» أمام المبنى الذي يحمل إسم «الحمامة» Le Pigeon ؟ ربما لأن الروائي والكاتب المسرحي والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو عاش فيه عندما نفي من فرنسا عام 1851 في أعقاب الإنقلاب العسكري الذي وضع حداً للجمهورية الثانية. أحب هوجو هذه الساحة كثيراً، ووصفها بأجمل ساحات العالم. وأنا بالفعل أشاطره الرأي. فعلى رغم زياراتي للعديد من ساحات العالم، فإن هذه الساحة تقدم نفسها لزوارها كتحفة فنية تعبق بالكنوز التاريخية والمآثر العمرانية، وتعيش ماضيها بكل فخر واعتزاز.
غالباً ما أنهي زيارتي للساحة بالإستراحة وتناول الطعام في مطعم «السفينة الشراعية الذهبية» La Chaloup d’Or. ولهذا المطعم تاريخ طويل يمتد إلى مئات السنين. فحتى القرن الرابع عشر كان المقر الرسمي لجمعية الخياطين البلجيكيين. وستلاحظون في الطابق العلوي تمثال القديس بونيفاس شفيع الخياطين، وبالقرب منه لوحات ومجسمات خشبية وأوانٍ قديمة ستنقلكم إلى الماضي في لحظات.
اليوم الثاني
أمّر من جديد في «الساحة الكبيرة» قاصداً أحد أهم معالم بروكسل السياحية، تمثال الـ «مانيكان بيس» Mannequin Pis البرونزي الذي يصور ولداً عارياً بطول 61 سنتمتراً وهو يبول! وتدور حول هذا المجسم الصغير الذي يستقطب مئات السياح يومياً مجموعة من الأساطير، أكثرها شهرة تلك التي تقول إن بروكسل كانت في القرن الرابع عشر تحت الحصار من قبل قوات أجنبية. وكانت لدى المهاجمين خطة تقضي بوضع عبوات ناسفة على جدران المدينة لتهديمها. وشاءت الصدف أن يقوم ولد صغير يدعى «جولينانسكي» بمهمة التجسس على الأعداء. وبينما كانوا يستعدون لتفجير المدينة، تبول على الفتيل المشتعل، وبالتالي أنقذ المدينة. على إيقاع الموسيقى التي كانت تعزفها فرقة موسيقية تحظى برعاية الجمعية الخيرية التي تهتم بالتمثال.
تركت المكان قاصداً «المركز البلجيكي للرسوم المتحركة» The Belgian Comic Strip Center الذي افتتحه الملك البلجيكي ألبير الثاني وزوجته الملكة باولا الإيطالية الأصل عام 1989. يمتد المركز على مساحة 4 آلاف متر مربع ليقدم لزواره الذين يفوق عددهم 200 ألف زائر سنوياً صورة واضحة عن عالم الرسوم المتحركة، من بداياته المرموقة إلى التطورات الأخيرة. وأكثر ما أثار اهتمامي هنا القسم الذي يلقي الضوء على «تان تان» Tintin، تلك الشخصية الكرتونية التي اضحكتنا كثيراً في صغرنا، ولا تزال حتى يومنا هذا مصدر فرح للكثيرين.
اقتربت من قصص «تان تان» وكلبه الوفي «ميلو» التي ترجمت إلى أكثر من 55 لغة حول العالم. عند تلك الحقيقة زاد إعجابي بمخترع تلك الشخصية الفنان ورسام الكاريكاتور البلجيكي جورج ريمي الذي بدأ بكتابة سلسلة مغامرات «تان تان» عام 1929 واستمر حتى وفاته العام 1938.
و الجميل في مغامرات «تان تان» انها تحكي عن قصة مواطن دولي يتنقل من بلجيكا إلى فرنسا ثم إلى الصين والشرق الأوسط وأميركا بجميع أقسامها، ليشارك بقضايا تلك المناطق، ما جعل من «تان تان» شخصية المواطن الدولي بامتياز. وكم شبهت هذه الشخصية بالدور الذي تلعبه مؤسسات الإتحاد الأوروبي على أرض بلجيكا.
اليوم الثالث
اسأل أي مواطن بلجيكي عن أرقى وأهم الأحياء التي تقطنها الطبقة المخملية عندهم، فسيكون الجواب إنه حي الـ «سابلون» Le Sablon الذي بدأ يستقطب في السنوات الأخيرة محلات التحف والمعارض الفنية. دخلت في صبيحة يومي الثالث في بروكسل متجراً للتحف تديره امرأة بلجيكية في العقد الخامس من العمر، فأخبرتني أن إسم الحي يشير إلى وقت كان يقع فيه خارج أسوار المدينة في القرن الثاني عشر. وكان الموقع آنذاك عبارة عن طريق رملية يسلكها الناس للوصول إلى أبواب المدينة. ومن كثرة استخدام الطريق، أصبحت جوفاء وتكونت على جانبيها طبقة من الصلصل الرملي تعرف بالفرنسية باسم «سابلون». وفي القرن الرابع عشر شيدت في ذلك الحي كنيسة صغيرة للسيدة العذراء، ثم تم توسيعها لتتحول إلى كنيسة قوطية الطراز جميلة الشكل. ومنذ ذلك التاريخ بدأت طبقة النبلاء في بلجيكا بناء منازلها الفخمة في الحي الذي تحول مع مرور الزمن إلى مكان تتنافس الطبقة الثرية على السكن فيه.
شكرت السيدة البلجيكية على معلوماتها الدقيقة، وقصدت وفقاً لنصيحتها مقهى وباتيسري «ويتامر» Wittamer الشهير بصناعة الحلويات والشوكولا. وقد علمت أن قالب الحلوى الذي قطعه ولي العهد البلجيكي وزوجته خلال حفل زفافهما عام 1999 تم تحضيره في باتيسري «ويتامر».
وأنهي رحلتي في بروكسل بزيارة «الآتوميوم» Atomium، ذلك النصب التذكاري المشيد من الإسمنت والفولاذ عام 1958 للإحتفال بمعرض بروكسل 58. سيدهشكم حتماً شكله الهندسي المميز حيث تبرز 9 طابات من كريستال الحديد، مرتبطة ببعضها عبر أنابيب ضخمة، وهي التمثيل البصري لمفهوم جزيئات كريستال الحديد، بعد تضخيمها 150 بليون مرة. بعد وصولي إلى الطابة العلوية عبر السلالم الكهربائية، كنت مع غيري من السياح نستمتع بالمناظر البانورامية التي تلف ذلك المكان، والتي تجعل من الرحلة إليه متعة في حد ذاتها.
** للسفر:
* تستغرق الرحلة من لندن إلى بروكسل عبر قطار اليورو ستار حوالى الساعتين. وللمزيد من المعلومات يمكنكم زيارة موقع قطار اليورو ستار .
* للمزيد من المعلومات عن بروكسل يمكنكم زيارة الموقع التالي .
0 التعليقات:
إرسال تعليق